أخلاق هذا الزمن
أخلاق هذا الزمن!
أمين امكاح / كاتب مهتم بالشأن التربوي
الأخلاق الحقيقية تطبع الإنسان بطابع قيمي فعال يبعد عنه الحيوانية التي تضغط عليه باستمرار بفعل غرائزيته وشهوانيته، فكلما كانت منظومته الأخلاقية متماسكة توافق بين واقعه الظاهر والباطن إلا وأصبح أكثر تحصينا بها أمام ما يواجهه في الواقع المعيش، وهنا تظهر مدى قدرته على تمثل أخلاقه، إذ ليس من المعقول أن تبقى الأخلاق في دائرة القول، بل لا بد من اختبارها بالممارسة الفعلية في عالم الماديات، ليتم إثبات جودتها وصمودها، فمن السهل على أي إنسان أن يدعي تمثله لمنظومة أخلاق قوية وينزه بذلك قيمه الأخلاقية تنزيها كاملا على المستوى التنظيري، لكن من الصعب جدا أن يكون ادعاؤه مطابقا لواقع تصرفاته الحقيقية.
أغلب الناس اليوم يعتبرون أنفسهم متفوقين أخلاقيا؛ فيقومون باستعراض الأخلاق والتباهي بها ولا يكفون عن الإعلان عن كونهم من الأخيار وغيرهم من يحمل السوء والشر، كما أن التبجح بالأخلاق شائع بكثرة في العالم الافتراضي باعتباره مساحة مفتوحة ونشطة تسهل لهم تلك العملية بشكل كبير؛ سواء عبر التعبير عن صفات أخلاقية مصطنعة أو من خلال اتهامهم للآخرين بقلة الأخلاق أو انعدامها.
إن انفصال الناس عن الأخلاق الإنسانية النبيلة له صور متعددة في هذا الزمن الذي شاع فيه الزيف في كل شيء، ويمكن جمع تلك الصور في الانجراف نحو الماديات والانغماس في حب المظاهر وتحقيق المنافع الشخصية بدون أي حس إنساني، بالرغم من أن الناس اليوم أصبحوا أكثر تفاخرا وتغنيا بالأخلاق التي يزعمون التوفر عليها ظاهريا، لكن في عمقهم وجوهرهم لا أثر لوجودها البتة، وهذا ما يدل على عدم اتساقهم مع ذواتهم، فما يهمهم هو إظهار الصورة التي يريدون أن يراها الآخرون عليهم على أنها واقعهم مع أن صورة أخلاقهم الحقيقية مشوهة ومعطوبة.
والإنسان في هذه الحياة أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن يكون ممن ينتصر للأخلاق مهما كثرت خسائره المادية أو ألا يعطي لها أي اهتمام؛ مما يعني قدرته على أن يدوس عليها لنيل أي متاع دنيوي مؤقت، ومحاولة المرء في إظهار قوة جانبه الأخلاقي هي محاولة فاشلة، لأن الأخلاق تبرز بشكل ضمني في السلوك والفعل لا في القول والادعاء، فهذا الخيار غير متاح في التصور الصائب للأخلاق التي من غير الممكن أن تتعارض مع التصرفات السوية للإنسان، لهذا فإما أن تتنازل عنها نظرا لكثرة المطامع الدنيوية والمنافع المادية والمظاهر الخداعة التي تجرك نحو الانسياق وراءها أو تتمسك بأخلاقك وتبتعد عن كل ما يمكنه أن يجردك منها.
على كل واحد منا أن يعود إلى نفسه، وأن يسألها عن حقيقة الأخلاق التي تحملها ومدى صدقها وثباتها؛ بعدم اقترانها بالمظاهر والجوانب المادية والمصلحية وغيرها من المتغيرات الزائلة، وأن يكون جريئا معها في تحديد طبيعة أخلاقه، ليصبح قادرا على أن يبين لها تبعات اختياراته الأخلاقية عليه وعلى من حوله، ابتداء من محيطيه الشخصي الضيق وانتهاء بمحيطه المجتمعي الأوسع. وقد نتفاجأ من كون الكثيرين منا لا يعرفون حقيقة أنفسهم، وربما يرجع ذلك بالأساس لعدم صدقهم مع ذواتهم وغياب مصداقيتهم معها، فالتمكن من هذه النقطة الحساسة بالذات هو المفتاح لكي يدرك الشخص حقيقة منظومته الأخلاقية، ويتعرف على أعطابها، ويحدد مكامن خللها لإصلاح عيوبها لتصبح متوافقة مع سلوكياته وتصرفاته الخفية والظاهرة. وينبغي أن يتذكر الإنسان دائما على أن الخسائر المادية قابلة للتعويض مهما كان حجمها، في حين أن الخسائر الأخلاقية لا يمكن تعويضا أبدا وإن كان أثرها على الأمد القريب ضعيفا.
إخترنا لكم
- المثلية والشذوذ الجنسي وتأثيراتها في العصر الحديث (دراسة قرآنية)
- حين ينطق الكون ، حوارات في العقل والإيمان - الحلقة الأولى
- سُنّة التواضع العلمي في ضوء التفسير الموضوعي
- صناعة الجهل - الحلقة الأولى: صندوق الجهل المُصنّع
- كيف أُربّي ابني "المشاكس؟ مقاربة تربوية معرفية
- حرية الإنسان وحرمة التجسس في ضوء القرآن الكريم
- الإرادة الحرة في الفكر الإسلامي والغربي - مقاربات عقلية ونصية
- ظاهرة الغلو في الدين .. مقاربات ومعالجات
آخر الأسئلة و الأجوبة
- شبهة التنافي بين علة الغيبة ـ خوف القتل ـ وبين العلم بموته
- هناك من يدعي المنافاة بين طول العمر والعادة المطردة لقصر العمر
- ماهي المعايير التی یجب أن يتحلى بها الباحث أو الكاتب
- لمن نقرأ في البحوث التفسيرية والعقدية ؟
- ما هو الفرق بين القيد الاحترازي والتوضيحي وما هي الثمرة العملية
- ماهي نصيحتكم لنا في قراءة البحوث القرآنية والعقدية ورد الشبهات؟
- هل ان الحديث المقطوع هو نفسة الحديث المعلق؟