في رحاب المحرم - منبر الوعي لا منبر الشعارات والتجهيل
في رحاب محرم الحسين عليه السلام / 1446هـ
منبر الوعي... لا منبر الشعارات والتجهيل
✒️ يحيى عبد الحسن هاشم
إنّ المنبر الحسيني أمانة عظيمة ومسؤولية كبرى، لما له من أثر بالغ في تشكيل وعي الجماهير، وغرس المفاهيم العقدية، وتعميق الولاء لأهل البيت (عليهم السلام). ومن ثمّ، فإن ما يُنطق على هذا المنبر – سواء أكان من الخطيب أو الرادود أو الشاعر الحسيني – يجب أن يخضع لمعيار دقيق من الوعي العقدي، والانضباط اللغوي، والتمييز بين الانفعال العاطفي المشروع والانحراف المفهومي الخطير.
ولنضرب مثالًا على ذلك، ما صدر من أحد الرواديد، حين وصف أمير المؤمنين (عليه السلام) بأنه "ظالم"، زاعمًا في تعليله أنه "ظالم لأعداء الله".
وهذا القول، ربما يكون موزونًا شعريًا، إلّا أنه منحرف مفهوميًا، ومرفوض عقديًا، ومسيء أدبيًا، لما يلي:
❖ أولًا: التأصيل العقدي
إن وصف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) بالظلم، حتى ولو قُصد به ظلم أعداء الله، هو قول باطل عقائديًا، لا يجوز التفوّه به، لأنه:
معصوم بنصّ القرآن والسنة، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ [الأحزاب: 33]
وقد أجمع علماء الطائفة على أنه من أهل الكساء ومصداق الآية الأعظم.
ومن الثابت عند الإمامية أن المعصوم لا يظلم أحدًا مطلقًا، لأنه عدل الله المجسّد ولسان حكمته، لا يتصرّف بهواه، ولا يجور في حكمه.
وهو القائل:
"واللهِ لو أُعطِيتُ الأقاليمَ السبعةَ، بما تحتَ أفلاكِها، على أن أعصِيَ اللهَ في نملةٍ أسلبُها جِلْبَ شعيرَةٍ، ما فعلتُ"
(نهج البلاغة، الخطبة 224).
ومن هنا، فإن من يصف الإمام بالظلم – مهما كانت نيّته – قد ارتكب خطأً عقائديًا فادحًا، وخرق أصلًا من أصول العقيدة، وافترى على مقام العصمة، لأن الظلم لا يُنسب إلى الإمام حتى في مقام ردع الطغاة، بل إن فعله دائمًا عدلٌ، وأمره حقّ، وحكمه امتداد لحكم الله.
❖ ثانيًا: خطورة الانحراف اللغوي
اللغة ليست وسيلةً للتأثير الانفعالي فحسب، بل هي حاملة للمفاهيم العقائدية. واستعمال لفظ "الظلم" في وصف أفعال الإمام علي (عليه السلام) يُعدّ خرقًا صارخًا للمفردة القرآنية، لأن الله تعالى يقول:
﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [آل عمران: 57]
﴿أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [هود: 18]
فهل يصح بعد هذا أن نقرن اسم علي (عليه السلام) – قسيم الجنة والنار – بكلمة تستوجب اللعن والطرد الإلهي؟!
إنّ هذا الخلل في التعبير يُفضي إلى تشويه مفاهيم العقيدة، خصوصًا عند الجيل الناشئ الذي يسمع ولا يميّز بين القافية والانحراف.
❖ ثالثًا: غياب المراجعة العلمية للقصيدة الحسينية
ما نلحظه اليوم من فوضى في كتابة القصيدة الحسينية، وغياب مراجعة العلماء وأهل التحقيق العقدي واللغوي، أدى إلى:
1.استعمال ألفاظ غلوّية أو تقصيرية.
2.إدراج تراكيب شركية لا تليق بمقام أهل البيت عليهم السلام.
3.طرح صور شعرية توهم الناس مفاهيم خاطئة عن العصمة والولاية والعدل الإلهي.
وكل ذلك يساهم – بقصد أو بدون قصد – في تشويه صورة مدرسة أهل البيت، وتحريف خطابها عن مقاصده العليا.
❖ رابعًا: مسؤولية العلماء والخطباء
الخطباء والعلماء والمثقفون الحسينيون، تقع على عاتقهم مسؤولية كبرى في:
تصحيح المفاهيم قبل أن تتحول إلى شعارات جماهيرية.
نقد القصائد غير المنضبطة دون مجاملة.
ضبط المنبر الحسيني بأصول مدرسة آل محمد (عليهم السلام)، لا بأهواء الشعراء أو مشاعر الرادود.
وقد قال الإمام الصادق (عليه السلام):
"كونوا زينًا لنا ولا تكونوا شينًا علينا"
(الكافي، ج8، ص245، باب الزهد، حديث 296)
❖ خامسًا: خطوات إصلاحية مقترحة
1. تشكيل لجان علمية لمراجعة القصائد قبل عرضها على المنبر.
2. إقامة دورات تأصيلية في العقيدة واللغة لكتّاب القصيدة والرواديد.
3. إعداد دليل عقدي وأدبي لمضامين القصيدة الحسينية.
4. تشجيع النقد البنّاء والانفتاح الواعي على الملاحظات العلمية من أجل حماية قدسية المنبر.
أخيراً : إن منبر الحسين عليه السلام ليس أداةً للشحن العاطفي المنفلت، بل هو منبر وعي، ومنصة هدى، وراية عدل.
وما لم يُضبط هذا المنبر بعين العقيدة ولسان القرآن، فسوف يتسلل إليه الجهل المغلّف بالشعارات، والانفعال المزين بالقوافي، ويُساء من حيث لا يُقصد إلى أشرف مدرسة في التاريخ.
الإمام الحسين عليه السلام بكلماته الخالدة، رسم لنا فلسفة الحياة والموت، حيث لا يرى الموت نهاية، بل يرى فيه حليةً تتزيّن بها الأعناق حين يُختار عن وعي وبصيرة.
" قد خُطّ الموت على وُلدِ آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة "
فمن يسلك درب الجهاد، ويختار الشهادة نهجًا، إنما يدرك مسبقًا مصيرَه، ولا يهاب الموت، بل يُقْبِل عليه قرير العين، لأن الموت في سبيل الحق حياة لا تزول.
إخترنا لكم
- في رحاب الحقوق - حوار ومجالسة لفهم عمق الكلمة وسمو المعنى (الحلقة الاولى )
- ❖ هل يتنحّى العقل عند عتبة الوحي؟
- حوار في فلسفة القصاص الإلهي
- في رحاب المحرم - منبر الوعي لا منبر الشعارات والتجهيل
- افق المعرفة: مشروع تأصيلي لإحياء العقل وبناء الوعي
- المثلية والشذوذ الجنسي وتأثيراتها في العصر الحديث (دراسة قرآنية)
- حين ينطق الكون ، حوارات في العقل والإيمان - الحلقة الأولى
- سُنّة التواضع العلمي في ضوء التفسير الموضوعي
آخر الأسئلة و الأجوبة
- مخطط تفصيلي لخريطة ومشجرة تقسيم الخبر
- ماهو المراد من هذه العبارة : الجرح امر وجودي والتعديل عدمي
- هلاّ ارشدتني إلى كتب استطيع من خلالها الإلمام بعلم الجرح والتعديل
- الاقتران بين الحب للعترة الطاهرة والعمل هما المنجيان
- ماهي المعايير التی یجب أن يتحلى بها الباحث أو الكاتب
- لماذا يتأوه أمير المؤمنين من قلة الزاد ووحشة الطريق ؟
- هل توجد قواسم مشتركة لتوحيد كلمة المسلمين ولاسيما في هذا الظرف الدقيق والحساس