حوار في فلسفة القصاص الإلهي
حين يُمهل الله… ولا يُهمل
حوار في فلسفة القصاص الإلهي
✒️ يحيى عبد الحسن هاشم
"أفق المعرفة | صناعة "
في بعض الأحيان أستخدم الحوارية ، لأنها تجعل القارئ يرى نفسه مكان الشخص السائل، ويحسّ بالموقف، فيبني صلة علمية أو عاطفية مع الموضوع. وفي بعض الأحيان قد يكون القارئ ليس دومًا في موضع التصديق، بل قد يكون في موقع المتردد أو المشكّك، والحوار يمنحه حقّ التساؤل دون كسرٍ أو استعلاء. لذا بدلاً من تلقين مباشر، نعيش مع السؤال والجواب، فنُدرك الحقيقة مع السائل.
والآن لنفهم هذه الحقيقة مع هذا الحوار :
أحمد:
يا علي… أحيانًا أرى الظالم يعلو ويبطش، ولا يُمس بسوء، بينما المظلوم يئنّ في صمته، وتُصفّد يداه، فأقول: أين القصاص؟ أين عدالة الله؟
علي:
سؤالك مشروع يا أحمد، لكن الجواب أعمق مما نظن… أنت تنظر بعين الزمن المحدود، أما القرآن فيعلّمنا أن القصاص الإلهي لا يُقاس بعجلة الإنسان، بل بحكمة الرحمن.
أحمد:
لكنّ الظلم يطول، والدماء تسيل، والأرض تضجّ من القهر… ألا ترى أن الله يُمهل كثيرًا؟
علي:
نعم، الله يُمهل… لكنه لا يُهمل. اسمع قوله في سورة الأعراف:
﴿ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴾
أي أنه يُطيل لهم الحبل، لا ليكرمهم، بل ليُهيّئهم للسقوط الحتمي… فـ"كيده متين"، أي أن تدبيره عميق، محكم، لا يُدركه الظالم حتى يُؤخذ من حيث لا يعلم.
أحمد:
لكن لماذا يُمهلهم أصلًا؟ ما الحكمة من تركهم يمرحون فوق رؤوس الناس؟
علي:
أجابك القرآن نفسه:
في سورة آل عمران، قال:
﴿ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ﴾
أي يُمهلهم ليزدادوا في الظلم، حتى إذا بلغوا الغاية، جاء أخذ الله الشديد، الذي لا يُبقي ولا يذر.
أحمد:
أهو نوعٌ من الاستدراج إذًا؟
علي:
بالضبط! استمع إلى قوله تعالى:
﴿ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ﴾
﴿ وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴾
الاستدراج هنا هو أن يُفتح للظالم باب القوة والمال والعلو، فيظن نفسه منتصرًا، ثم يؤخذ فجأة، في لحظة غفلة وكِبر.
أحمد:
ولكن الناس تتوه، وتظن أن الظالم على حق، والمظلوم مهزوم!
علي:
لذلك جاء التحذير في سورة إبراهيم:
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ﴾
إنه نفي الغفلة عن الربّ المطّلع، الذي يرى ويسمع ويُمهل لحكمة، ويقضي بقانون، لا بالعاطفة.
أحمد:
وما هو هذا القانون يا علي؟
علي:
أن الظالم إذا استنفد فرص التراجع، وتكاثرت عليه الحجج، ولم تنفعه النذر، أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، كما في قوله تعالى في هود:
﴿ وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَآ أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ وَهِىَ ظَٰلِمَةٌ ۚ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾
أحمد:
فهمت الآن… القصاص الإلهي ليس عاطفة لحظية، بل قرار عدليّ إلهيّ، لا يأتي حتى تكتمل الشروط ويحين الموعد.
علي:
نعم يا أحمد… والقرآن حين يُعلّمنا هذا، لا يريدنا أن نيأس، بل أن نثق، ونصبر، ونعمل… لأن الحق لا يُهزم أبدًا، وإن أُسكت صوته مؤقتًا.
أحمد:
جزاك الله خيرًا يا علي… الآن أرى الحياة بنورٍ جديد، وأشعر أن السماء لا تنسى، وإن طال الصمت.
علي (بابتسامة هادئة):
أجل… فالرب الذي قال:
﴿ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴾
لن يترك كيدهم دون أن يُكسر… فقط تمسّك بوعده، وكن من أهل الثبات.
إخترنا لكم
- في رحاب الحقوق - حوار ومجالسة لفهم عمق الكلمة وسمو المعنى (الحلقة الاولى )
- ❖ هل يتنحّى العقل عند عتبة الوحي؟
- حوار في فلسفة القصاص الإلهي
- في رحاب المحرم - منبر الوعي لا منبر الشعارات والتجهيل
- افق المعرفة: مشروع تأصيلي لإحياء العقل وبناء الوعي
- المثلية والشذوذ الجنسي وتأثيراتها في العصر الحديث (دراسة قرآنية)
- حين ينطق الكون ، حوارات في العقل والإيمان - الحلقة الأولى
- سُنّة التواضع العلمي في ضوء التفسير الموضوعي
آخر الأسئلة و الأجوبة
- مخطط تفصيلي لخريطة ومشجرة تقسيم الخبر
- لماذا هذا البكاء الكثير على الحسين عليه السلام ؟
- ماهو الفرق بين مصطلح الوثاقة والوثوق
- هناك من يدعي المنافاة بين طول العمر والعادة المطردة لقصر العمر
- هل أن الشيعة لهم علم في الجرح والتعديل
- لماذا يتأوه أمير المؤمنين من قلة الزاد ووحشة الطريق ؟
- هل المهم أن نحفظ القرآن أو نستنطقه ونتدبره