العدالة والصلح في المنظومة القيمية عند أهل البيت عليهم السلام
العدالة والصلح في المنظومة القيمية عند أهل البيت عليهم السلام
تمهيد :
من البديهي أن النفس مجبولة ومفطورة على حب العدل والصلح والسلم وبغض الظلم بكل أشكاله وألوانه ، ولو استقرأنا حاضر الأمم وماضيها لوجدناها عبر حياتها تهتف بالعدل وتعطيه الصدارة والأولوية، بل وتقدسه وتتغنى بهما ؛ وتضحي من أجله؛ لأنه يمثل الديمومة لحياتها فهو سر بقائها.
ولعلنا لا نغالي إذا قلنا أن تلاشي الحضارات وفنائها هو بسبب فقدان هذين العنصرين -العدل والصلح - بين مجتمعاتها الإنسانية مما أدى الى انهيارها وبالتالي سقوطها.
والعدل والصلح هما هدف الرسالات النبوية، فالكتب السماوية المنـزلة، من صحف إبراهيم وتوراة موسى وإنجيل عيسى، وإلى القرآن الكريم الذي أنزله الله على قلب خاتم الأنبياء محمد عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، فإن هذه الكتب في كل التفاصيل التي جاءت بها، كانت تؤصل هذا المفهوم وتؤكد عليه للوصول إلى هذا الهدف الكبير، وهو إقامة العدل بين الناس، الذي جعله الله ميزاناً للحق والباطل أو ميزاناً للحقوق، باعتبار أن لكل شخص حقوق وواجبات على الشخص الآخر والعكس صحيح. قال تعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ }([1])، والقسط كناية عن العدل .
وكذلك مفردة الصلح والإصلاح ، قال تعالى على لسان نبيه : {..إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ }([2]).
فالعدل والصلح هما الأساس في كلِّ الرسالات التي بعث الله الانبياء بها ليحققوا هذا الهدف الرباني العظيم ، ولا ننسى أن الرسول الأكرم ’بشرنا بمصلح عالمي يملأ الأرض قسطاً وعدلا كما ملئت ظلماً وجوراً .
عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه ’ قال: > لا تقوم الساعة حتى تمتلئ الأرض ظلما وعدوانا ثم يخرج رجل من أهل بيتي أو عترتي فيملؤها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وعدوانا< ([3]). فهدف هذا الامام هو إقامة الصلح والعدل في أرجاء المعمورة كافة .
لذا نجد أن النبي الأكرم ’ وأهل بيته^ قد جسدوا هذين المفهومين بأقوالهم وأفعالهم بأروع الصور لا سيما العدل، فكانوا المثل الذي يُقتدى به، وبذلك رسموا لنا منهجاً لابد للإنسانية أن تسير عليه وتلتزم به كي تضمن بقائها وديموتها.
وقبل أن نلج غمار هذا البحث لابد لنا أن نفسر هاتين المفردتين ( العدالة والصلح) في اللغة والاصطلاح .
العدالة والصلح في اللغة والاصطلاح :
العدل في اللغة :
السوية ، وقال ابن الأعرابي : العدل : الاستقامة.. ويقال لكل من لم يكن مستقيما حدل ، وضده عدل([4]).
وفي الاصطلاح : تفسر العدالة ضد الظلم، وهي مناعة نفسية، تردع صاحبها عن الظلم، وتحفّزه على العدل، وأداء الحقوق والواجبات. وهي سيدة الفضائل، ورمز المفاخر، وقوام المجتمع المتحضر، وسبيل السعادة والسلام.
الصلح في اللغة :
الصلاح ضد الفساد وهما مختصان في أكثر الاستعمال بالأفعال.. والصلح يختص بإزالة النفار بين الناس ، يقال منه اصطلحوا وتصالحوا ([5]).
ويقال : وقع بينهما صلح . الصلح ، بالضم: تصالح القوم بينهم ، وهو السلم، بكسر السين المهملة وفتحها.. ورأى الإمام المصلحة في كذا ، واحدة المصالح ، أي الصلاح . ونظر في مصالح الناس. وهم من أهل المصالح لا المفاسد . واستصلح : نقيض استفسد ([6]).
وفي الاصطلاح :
فهو لا يختلف عن المعنى اللغوي فالصلح مأخوذ من المصالحة لقطع النزاع وإقامة السلم وفق المصلحة الإسلامية والشرعية .
إذن بعد ما تقدم في كلا المعنيين اللغوي والاصطلاحي ، فالعدالة والصلح هما مفهومان إسلاميان قوامهما إقامة العدل والسلم ونبذ الظلم عن كاهل الفرد بل والمجتمع بكل أفراده وطوائفه، لذا نجد أن الكتاب والعترة الطاهرة وهي الثقل ([7]). الذي لا يفارقه ركّزت بشكل كبير على هذين المفهومين .
العدل في القرآن الكريم :
أما العدل فنجد أن آياته جل وعلا طافحة بذكره نذكر بعض منها :
1- قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }([8]).
2- وقال تعالى: { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }([9]).
3- وقال تعالى: { وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا }([10]). وغيرها من الآيات الشريفة.
في هذه الآيات نجد أن الله جل وعلا ركز بل أوجب بالأمر بالعدل والإحسان والقسط في إيتاء ذي القربى ، وهذا في جانب الفعل كما الآية الأولى .
وكذلك في القول: لابد للإنسان أن يقول عدلاً وأن يفي بوعده ، وهذه هي وصية الله تعالى ، كما في الآية الثانية .
وأيضاً في الحكم لابد أن يكون الحاكم عادلاً في رعيته منصفاً بينهم وهذا ما يعظ به الله تعالى كما في الآية الثالثة .
الصلح في القرآن الكريم :
1- قال تعالى : { .. وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} ([11]).
2- قال تعالى: { ..إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ }([12]).
3- قال تعالى : { وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}([13]).
في هذه الآيات الكريمة ذكر المولى جل وعلا إن إصلاح ذات البين والأسرة وهو يأتي في الرتبة الأولى ، وهو كما نجده في الآية الأولى .
ثم لينطلق الى دائرة الإصلاح الكبرى وهي دائرة الأمة والمجتمع الإسلامي بشكل عام، وذلك بقدر ما يستطيع بتوفيق وتوكل على الله تعالى ، وهذا ما أشارت إليه الآية الثانية.
ثم يؤكد المولى جل وعلا على أن المصلحين أجرهم محفوظ عند الله تعالى وذلك للترغيب في هذه المهمة العظمية وليزرع في قلوب الناس حب هذه الصفة لكي يكون المجتمع متسالماً متصالحاً موحداً . ولكي يكون هذا الغرض ناجحاً لابد من التمسك بالكتاب وإقامة الصلاة فهي الضمان لاستمرار عملية الصلاح في المجتمع الإنساني بشكل عام ، وهذا ما أشارت إلية الآية الثالثة .
والصلح في الحقيقة متفرع على العدل فمن العدل هو أن يصلح الإنسان بينه وبين ربه وبينه وبين نفسه أو بينه وبين أخيه الإنسان أو مجتمعه وبيئته .
العدل في روايات أهل البيت عليهم السلام :
للعدل في المنظومة الفكرية لأهل البيت عليهم السلام جوانب متعددة ، نذكر منها، قولهم عليهم السلام :
- رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : أعدل الناس من رضي للناس ما يرضى لنفسه ، وكره لهم ما يكره لنفسه .
- رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال: عدل ساعة خير من عبادة سبعين سنة ، قيام ليلها ، وصيام نهارها.
- الامام علي( عليه السلام ) قال : العدل ميزان الله في الأرض، فمن أخذه قاده إلى الجنة، ومن تركه ساقه إلى النار .
الإمام علي ( عليه السلام ) : العدل أساس به قوام العالم .
وقال عليه السلام : في العدل الاقتداء بسنة الله وثبات الدول .
وقال عليه السلام :في العدل إصلاح البرية ، في العدل الاقتداء بسنة الله ، في العدل الإحسان .
وقال عليه السلام : العدل حياة ، الجور ممحاة .
وقال عليه السلام: شيئان لا يوزن ثوابها : العفو ، والعدل .
وقال عليه السلام: أفضل الناس سجية من عم الناس بعدله.
فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) : فرض .. العدل تسكينا للقلوب.
الإمام الباقر ( عليه السلام ) : ما أوسع العدل ! إن الناس يستغنون إذا عدل عليهم.
الإمام الصادق ( عليه السلام ) - لما سئل عن صفة العادل : إذا غض طرفه عن المحارم، ولسانه عن المآثم ، وكفه عن المظالم.
الإمام الصادق ( عليه السلام ) : العدل أحلى من الماء يصيبه الظمآن ، ما أوسع العدل إذا عدل فيه وإن قل .
الإمام الكاظم ( عليه السلام ) ، في قوله تعالى : ( يحيي الأرض بعد موتها )، قال : ليس يحييها بالقطر ، ولكن يبعث الله رجالا فيحيون العدل فتحيى الأرض لإحياء العدل
الامام الرضا ( عليه السلام ) ، قال : استعمال العدل والإحسان مؤذن بدوام النعمة ([14]).
الصلح والإصلاح في روايات أهل البيت عليهم السلام
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : صلاح ذات البين أفضل من إقامة الصلاة والصوم .
وقال ’ :ما عمل امرؤ عملا بعد إقامة الفرائض خيراً من إصلاح بين الناس، يقول خيرا وينمي خيراً .
الامام علي عليه السلام : قال في وصيته للإمام الحسن والحسين : أوصيكما وجميع ولدى وأهلي ومن بلغه كتاب بتقوى الله ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم، فاني سمعت جدكما صلى الله عليه وآله يقول صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام .
الامام الصادق عليه السلام : المصلح ليس بكذاب .
الامام الصادق عليه السلام: إذا رأيت بين اثنين من شيعتنا منازعة فافتدها من مالي .
الامام الكاظم عليه السلام، قال: طوبى للمصلحين بين الناس، أولئك هم المقربون يوم القيامة ([15]).
إذن فالعدل والصلح يسيران جنباً الى جنب ، فالعدل هو الميزان بين الحق والباطل ، وهو الإصلاح والملك والقدرة، وبسببه ثبات الدول وعدم زوالها ، وهو الذي يديم النعم على الشعوب وهو و هو .. والصلح هو أفضل من الصلاة والصوم والمصلح هو المقرب الى الله يوم القيامة .
وهذا التركيز الذي نلمسه من كلام العترة الطاهرة الغرض منه كما هو واضح من لسان الروايات هو إصلاح المجتمع والناس، لذا سنتكلم حول منهج العدالة الاجتماعية عند أمير المؤمنين عليه السلام. لنرى كيف جسدها في الواقع الخارجي .
منهج أمير المؤمنين في العدل الاجتماعي
أما العدل الاجتماعي فقد جسد أمير المؤمنين × هذا المفهوم بدقة ورسم منهاجاً طبقه على نفسه أولاً ليكون نمطاً ومثالاً يقتدى به على مر الأجيال ، وذلك حينما خاطب ولده الحسن × ، قائلاً :
«يا بنُيّ اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب أن تُظلم، وأحسن كما تحب أن يحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك، ولا تقل ما لا تعلم وإن قلّ ما تعلم، ولا تقل ما لا تحب أن يقال لك»([16]).
فهنا أمير يعطي قواعد وضوابط للعدل تتلخص بالتالي:
العدل أن يجعل الإنسان نفسه ميزاناً بينه وبين غيره من الناس، فلا يفضل نفسه على غيره أياً كان حسبه ونسبه .
العدل أن تحب لغيرك كما تحب لنفسك وكذلك في جانب الكره .
العدل أن لا تظلم الناس كما انك لا تحب أن يظلموك فهو وأنت في جنس الإنسانية واحد، وكذلك تبادل عملية الإحسان سلباً وإيجاباً .
العدل هو أن لا تقل أشياء قد تسبب ضرراً على الآخرين وكذلك لا تقل أشياءً قد تكرهها لنفسك فلا تقلها لغيرك .
فلو تأملنا بما رسمه أمير المؤمنين × في هذه اللوحة والديباجة الرائعة ، فهو يعطينا منهجاً ودستوراً للحياة قائم على العدل بكل تفاصيله لا سيما في العدل الاجتماعي
بشكل عام .
منهج أمير المؤمنين في العدل والإصلاح في الحكم
إن الحكام هم ساسة الرعية وهم ولاة أمر الأمة ، فالأولى أن يكونوا على قدر المسؤولية وذلك بتطبيق العدل والصلح بين الناس فبعدلهم يستتب الأمن والسلام ويشع الرخاء، وتسعد الرعية. وبالعكس من ذلك تنتكس تلك الفضائل، والأماني الى نقائضها، وتغدو الأمة آنذاك في قلق وحيرة وضنك وشقاء.
لا قيمة للحكم بلا عدل
وأهل البيت عليهم وأولهم أمير المؤمنين × قد ضرب المصداق الجلي في تطبيق هذا المنهج وذلك ما رواه لنا ابن عباس قائلاً :
> دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام بذي قار وهو يخصف نعله ، فقال لي ما قيمة هذا النعل ،فقلت لا قيمة لها ، فقال عليه السلام والله لهي أحب إلي من إمرتكم إلا أن أقيم حقا أو أدفع باطلا <([17]).
فالحكم في نظر أمير المؤمنين هو أن يكون الحاكم عادلاً ومصلحاً في رعيته، وإلا فما قيمة الحكم بدون إقامة الحق وإبطال الباطل ، لذلك إذا انعكس الأمر وكان الباطل هو الحاكم، فسيكون الحكم كنعله الذي لا قيمة له .
وهو القائل ×: «واللّه لئن أبيت على حسك السعدان مسهداً([18])، واُجرُّ في الأغلال مصفداً، أحب إلي من أن ألقى اللّه ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشيء من الحطام، وكيف أظلم أحداً لنفس يسرع الى البلى قفولها ً([19])، ويطول في الثرى حلولها»([20]).
فهنا أمير المؤمنين × يتمنى أن يبيت على حسك السعدان (وهو الشوك) وهو في حالة ألم وقلق وأرق من جراء ذلك، بل ويجر في الأغلال مقيداً ، هذا المشهد الذي يرسمه أمير المؤمنين، عنده أحب إليه من أن يظلم أحداً من العباد . أو أنه يغصبه شئ من حطام الدنيا الفانية والزائلة . وهذا هو قمة العدل والإنسانية . لذا نجد أن جورج جرداق، وصف الامام، بأنه : صوت العدالة الإنسانية .
دستور العدالة والصلح، وثيقة العهد لمالك الأشتر
وكذلك عهده لمالك الأشتر ، تلك الوثيقة والدستور الذي لا مثيل له في جميع الدساتير الوضعية فهي بحق تعتبر وثيقة يجب أن يعتبر بها الحكام في جميع المجتمعات الإسلامية وغيرها . قال عليه السلام :> ثم اعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور . وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك ، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم . وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده . فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح . فأملك هواك ، وشح بنفسك عما لا يحل لك، فإن الشح بالنفس الإنصاف منها فيما أحبّت أو كرهت . وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم . ولا تكونن عليهم سبعاً ضاريا تغتنم أكلهم ، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق .. أعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه ، فإنك فوقهم ، ووالي الأمر عليك فوقك ، والله فوق من ولاك . وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم . ولا تنصبن نفسك لحرب الله فإنه لا يدي لك بنقمته ، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته . ولا تندمن على عفو ، ولا تبجحن بعقوبة ، ولا تسرعن إلى بادرة وجدت منها مندوحة ، ولا تقولن إني مؤمر آمر فأطاع ، فإن ذلك إدغال في القلب ، ومنهكة للدين .. أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوى من رعيتك ، فإنك إلا تفعل تظلم ، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده ، ومن خاصمه الله أدحض حجته .. الخ خطبته عليه السلام< ([21]).
نماذج من عدل وإصلاح النبي والعترة الطاهرة:
سوادة بن قيس يقتص من النبي الأكرم صلى الله عليه واله
قال سوادة بن قيس للنبي ’ في أيام مرضه: > يا رسول اللّه إنك لما أقبلت من الطائف استقبلتك وأنت على ناقتك العضباء، وبيدك القضيب الممشوق، فرفعت القضيب وأنت تريد الراحلة، فأصاب بطني، فأمره النبي أن يقتصّ منه، فقال: اكشف لي عن بطنك يا رسول اللّه فكشف عن بطنه، فقال سوادة: أتأذن لي أن أضع فمي على بطنك، فأذن له فقال: أعوذ بموضع القصاص من رسول اللّه من النار يوم النار. فقال صلى اللّه عليه وآله: يا سوادة بن قيس اتعفو أم تقتص؟ فقال: بل أعفو يا رسول اللّه. فقال: اللهم أعف عن سوادة بن قيس كما عفا عن نبيك محمد < ([22]).
أعرابي يقاضي النبي صلى الله عليه واله
وقال أبو سعيد الخدري: > جاء أعرابي الى النبي صلى اللّه عليه وآله يتقاضاه ديناً كان عليه، فاشتدّ عليه حتى قال له: أحرّج عليك إلا قضيتني، فانتهره أصحابه وقالوا: ويحك، تدري من تكلم؟!! قال: إني أطلب حقّي.
فقال النبي ’: هلا مع صاحب الحق كنتم، ثم أرسل الى خولة بنت قيس فقال لها: إن كان عندك تمر فأقرضينا، حتى يأتي تمرنا فنقضيك. فقالت: نعم بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه. قال: فأقرضته فقضى الأعرابي وأطعمه. فقال: أوفيت أوفى اللّه لك؟ فقال: أولئك خيار الناس، إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع<
وقيل: إن الأعرابي كان كافراً، فأسلم بمشاهدة هذا الخلق الرفيع، وقال: يا رسول اللّه ما رأيت أصبر منك.
مساواة أمير المؤمنين × في العطاء
وهكذا كان أمير المؤمنين عليه السلام: يروي الامام الصادق × حينما تولى الامام الخلافة، صعد المنبر فحمد اللّه، وأثنى عليه، ثم قال:> إني لا أرزؤكم من فيئكم درهماً، ما قام لي عذق بيثرب، فلتصدقكم أنفسكم، أفتروني مانعاً نفسي ومعطيكم؟! قال: فقام إليه عقيل فقال له: والله لتجعلني وأسود بالمدينة سواء، فقال: اجلس، أما كان هنا أحد يتكلم غيرك، وما فضلك عليه إلا بسابقة أو بتقوى<([23]).
وكذلك قوله×عندما تفرق عنه أصحابه، فأشار عليه ثلة من بقية أصحابه أن يفضل الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم، ومن تخاف عليه من الناس فراره الى معاوية، فقال لهم أمير المؤمنين عليه السلام: «أتأمروني أن أطلب النصر بالجور، لا واللّه ما أفعل، ما طلعت شمس، ولاح في السماء نجم، واللّه، لو كان مالهم لي لواسيت بينهم، وكيف وإنما هي أموالهم»([24]).
ثمرات العدل والصلح على الفرد والمجتمع والدولة
من خلال ما تقدم نستطيع أن نلخص بعض الثمرات المترتبة على العدالة والصلح والسلم لو طبق هذان المفهومان في المجتمع الإسلامي ، نلخصها بالتالي :
1- الأمن لصاحبه في الدنيا والآخرة .
2- دوام الملك وعدم زواله.
3- حب الله تعالى والقبول والرضا بما قسم الله لعباده .
4- الإحساس بالثقة والثبات والقوة والعزة والاستغناء بالله تعالى عما سواه.
5- الصدع بالحق وحفظ الحقوق .
6- تحقيق الاستقرار والطمأنينة في المجتمع .
7- الشـعور بالمساواة يقضي على الفتنة والنزاعات والمشاكل المهلكة للطاقات والموارد
8- تعزز ثقافة وروح الحب والتعاون والتكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع .
9- تدفع الجميع إلى الذوبان في المجتمع والدولة وتغليب العام على الخاص .
10- قوة وتماسك البنيان الاجتماعي والسياسي والتفاف الجماهير حول قادتها .
11- تحقق الاستقرار السياسي الذي هو مفتاح التنمية الشاملة والنهوض.
وما أحوجنا اليوم الى النهوض بواقع هذه الأمة وذلك من خلال ترجمة هذين المفهومين -التي أرسى قواعدهما أئمة أهل البيت ^- على أرض الواقع ليشع نور العدل والصلح في ربوع امتنا الإسلامية؛ لكي تحيا هذه الأمة حياة حرة كريمة ، ويحظي كل فرد منها بحريته ، وينال جزاء سعيه .
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين .
الهوامش
([1]) الحديد : 25 .
([2]) هود : 88 .
([3]) ابن حبان ، صحيح ابن حبان : ج15 ص 236 ، الطوسي، الغيبة : ص 46 . المجلسي ، بحار الأنوار:ج36 ص 322.
([4]) ابن منظور، لسان العرب : ج 11ص434، الزبيدي، تاج العروس: ج 15 ص 473.
([5]) الراغب الأصفهاني، مفردات غريب القران : ص 284،
([6]) الزبيدي ، تاج العروس: ج4 ص 124- 125.
([7]) اشارة الى حديث الثقلين، روى مسلم في صحيحه بسنده :> عن زيد بن أرقم عن رسول الله ’ :>وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال، وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي..<
انظر: مسلم النيسابوري، صحيح مسلم : ج7 ص 122، أحمد بن حنبل، مسند أحمد:ج5 ص182 ، الترمذي، صحيح الترمذي: ج5 ص 329 .
([8]) النحل :90 .
([9]) الانعام : 152.
([10]) النساء :58 .
([11]) الانفال : 1.
([12]) هود : 88 .
([13]) الآعراف : 170.
([14]) البروجردي، جامع أحاديث الشيعة : ج14 ص 289 . الري شهري ، ميزان الحكمة : ج 3 ص 1841-1842. مستدرك الوسائل ، النوري ، ج 11 ص 317.
([15]) مستدرك سفينة البحار : ج 6 ص 308 – 309 ، فضل الصلح والإصلاح .
([16]) محمد عبده ، نهج البلاغة :ج 3 ص45 .
([17]) محمد عبده ، نهج البلاغة :ج 2 ص217 .
([18]) حسك السعدان : هو نبت له شوك . و المسهد : الأرق والقليل النوم .
([19]) قفولها : أي رجوعها .
([20]) محمد عبده ، نهج البلاغة :ج 3 ص45 .
([21]) محمد عبده ، نهج البلاغة :ج 3 ص85 . عهده لمالك الاشتر حينما ولاه مصر .
([22])الصدوق، الأمالي :ص 734.
([23]) الكليني ، الكافي : ج 8 ص 182 .
([24]) ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة : ج 2 ص203 .
إخترنا لكم
- ظاهرة الغلو في الدين .. مقاربات ومعالجات
- تكريمنا في المهرجان العالمي البحثي لاسبوع التحقيق السنوي
- رويكردى نو حديث غدير ( مقاربة جديدة في حديث الغدير )
- قناة كنوز المعرفة / قناة فكرية تخاطب العقل الإنساني الواعي
- تطبيق " صدرنا " كتب وبحوث المفكر الإسلامي محمدباقر الصدر
- صدور كتاب النظرية المهدوية في واقعها العقلي والروائي
- العلم الإجمالي وتطبيقاته على النصوص الحديثية والكلامية
- دراسة حديثة تتناول مناهج المحدثين في التشدد والتساهل والاعتدال وانعكاسه على التراث الحديثي
آخر الأسئلة و الأجوبة
- هلاّ ارشدتني إلى كتب استطيع من خلالها الإلمام بعلم الجرح والتعديل
- ماهي المعايير التی یجب أن يتحلى بها الباحث أو الكاتب
- ما هو الكتاب المهم في رد الإلحاد المعاصر
- حلاوة وزينة ذكر علي عليه السلام
- هل من ترك زيارة الحسين (ع ) من غير علة يستحق الدخول في النار؟
- ماهي نصيحتكم لنا في قراءة البحوث القرآنية والعقدية ورد الشبهات؟
- ما صحة هذا القول : إنّ الشيعة لا يحتاجون لعلم الجرح والتعديل؛ لان عندهم المعصوم