بين البداهة والوجود - تفكيك دعوى إنكار البديهيات والواقع
بين البداهة والوجود
تفكيك دعوى إنكار البديهيات والواقع
✒️ يحيى عبد الحسن هاشم
افق المعرفة | صناعة الوعي
إذا أنكرنا البديهيات والأوليات العقلية، وأنكرنا الواقع الخارجي المحسوس، فإننا نفتح الباب لفوضى معرفية وانهيار تام لأي إمكان للعلم أو الفهم أو البرهنة.
وهذا الرد التأصيلي العلمي يُبيّن العواقب الكارثية لذلك الإنكار، وفق منهج عقلي وفلسفي محكم، دون النظر إلى من قال به. ونركز نحن وهذا الفهم الذي يذكره القائل . نقاشنا في رد هذا الفهم الخاطىء !!
أوّلًا: تعريف البديهيات والواقع
1. البديهيات العقلية: هي القضايا التي يُدرك العقل صدقها بلا حاجة إلى برهان، مثل:
الكل أكبر من الجزء.
النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان.
مبدأ الهوية: الشيء هو ما هو.
مبدأ عدم التناقض.
2. الواقع الخارجي: هو ما يُدرك بالحواس إدراكًا مباشرًا، مثل وجود الجسد، الصوت، الضوء، الحرارة... وهو ما يُصطلح عليه بـ"الوجود العيني" في مقابل "الوجود الذهني".
ثانيًا: النتائج المترتبة على إنكار البديهيات والواقع
1. سقوط إمكان المعرفة من أصلها
كل علم يحتاج إلى مبادئ أولية (بديهيات) ينطلق منها. فإذا أُبطلت هذه المبادئ، فإن أي استدلال يُصبح بلا أساس.
الفيلسوف الإسلامي الخواجة نصير الدين الطوسي قال:
"من أنكر الضروريات، فليس له طريق إلى إثبات النظريات، ويُقطع الكلام معه"
شرح الإشارات والتنبيهات، ج1، ص109، مؤسسة النشر الإسلامي.
2. التناقض الذاتي في الدعوى
إنكار البديهيات هو استخدام للعقل ضد العقل: لأن الإنكار نفسه يتضمن اعترافًا ضمنيًا بالبديهة، إذ لا يمكن نفي شيء إلا بعد تصوره الجازم، وهو نفسه بديهي.
من ينكر الواقع يعتمد على الواقع في إنكاره (لغة، صوت، تعبير، حروف، وجود جسدي)؛ فالقول بنفي الواقع هو واقع لغوي وذهني محسوس.
3. الوقوع في النسبية المطلقة والعبثية
إذا لم يكن هناك بديهيات ولا واقع، فلا يمكن التفريق بين الصدق والكذب، أو بين العلم والجهل.
كل رأي يصبح مساويًا لغيره، ويُصبح الإيمان بوجود الله أو إنكاره سواء، والإيمان بالحقيقة أو بالوهم سواء.
4. استحالة بناء أي فلسفة أو علم أو أخلاق
لا يمكن بناء علم رياضي، أو منطق، أو حتى لغة، دون قبول البديهيات.
لا يمكن الحكم على السلوك بأنه خير أو شر إذا أنكرنا الواقع الأخلاقي أو مفهوم "الواجب".
ثالثًا: الردود العقلية والمنهجية على هذا الإنكار
أ. برهان اللزوم الذاتي:
من أنكر البديهيات، فهو واقع فيها لا محالة. لأنه لا يمكنه التفكير أصلًا إلا ببديهيات.
فمجرد ترتيب الكلمات في جملة، يفترض ثبات المعاني، وهذا بديهي.
ب. برهان الامتناع الذاتي:
القول بنفي البديهيات يُفضي إلى التناقض .
فمثلاً: إن قال "كل شيء قابل للخطأ"، فهذا قول يتناقض مع نفسه، لأنه يُفترض أنه هو نفسه صادق.
ج. برهان الفطرة:
الشعور بالوجود، وتمييز الذات، وحبّ البقاء، أمور فطرية غير قابلة للنقض.
حتى الأطفال يدركون الفرق بين الجوع والشبع، وبين الألم والراحة، وهذه إدراكات فطرية مباشرة.
أقوال العلماء في هذا الباب
وننقل في هذه العجالة بالضمن وما نفهمه بالمعنى لهذه المسألة المهمة:
1. ابن سينا:
"كل من شكّ في الضروريات فإما أن يكون مجنونًا، أو يتغافل عمّا هو عليه طبعًا."
الشفاء، المنطق، فصل البرهان.
2. السيد محمد باقر الصدر:
"إنكار البديهيات هو موقف عدمي لا يُمكن إنتاج معرفة منه، لأن البرهنة تحتاج إلى قاعدة ثابتة، وإنكار الواقع يحوّل المعرفة إلى مجرد تصور ذهني."
الأسس المنطقية للاستقراء، ص26، دار التعارف، بيروت.
3. العلامة الطباطبائي:
"إنكار الواقع الخارجي يوجب السفسطة."
نهاية الحكمة، ص12، مؤسسة النشر الإسلامي.
الخلاصة:
إن إنكار البديهيات والواقع:
يهدم المنطق.
يُسقط المعرفة.
يُبطل البرهان.
يؤدي إلى السفسطة.
ويفتح الباب لـ اللامعنى والعبثية.
بل إن مجرد الإنكار نفسه لا يُمكن قوله إلا عبر وسائط تثبت بديهيتها وواقعيتها، مما يجعل الدعوى باطلة ذاتًا ومتناقضة مضمونًا.
إخترنا لكم
- العقل ودوره في إثبات الرؤية الكونية ( محاضرة علمية)
- التلقين الجمعي وأزمة التفكير المستقل
- بين البداهة والوجود - تفكيك دعوى إنكار البديهيات والواقع
- قانون عدم التناقض والثالث المرفوع؛ عماد العقل ومنطلق الحياة
- في رحاب الحقوق - حوار ومجالسة لفهم عمق الكلمة وسمو المعنى (الحلقة الاولى )
- ❖ هل يتنحّى العقل عند عتبة الوحي؟
- حوار في فلسفة القصاص الإلهي
- في رحاب المحرم - منبر الوعي لا منبر الشعارات والتجهيل
آخر الأسئلة و الأجوبة
- لايزال ذم المرأة في عصر الحداثة وكونها ناقصة العقل ..كيف تردون على ذلك ؟
- كيف تقرؤون نوعية الخطاب الديني والخطيب
- هل أن الشيعة لهم علم في الجرح والتعديل
- هناك من يدعي المنافاة بين طول العمر والعادة المطردة لقصر العمر
- ما هو المراد من القضية المهملة؟
- شبهة التنافي بين علة الغيبة ـ خوف القتل ـ وبين العلم بموته
- كيف تفسرون موقف السيدة زينب الذي أسقط النسخة المزيفة للإسلام الأموي؟