سُنّة التواضع العلمي في ضوء التفسير الموضوعي
سُنّة التواضع العلمي في ضوء التفسير الموضوعي
د. يحيى عبد الحسن هاشم
تمهيد :
التواضع العلمي قيمة جوهرية في بناء الإنسان معرفيًا وروحيًا، وهو ليس تخلّيًا عن الثقة بالنفس، بل وعيٌ عميق بحدود الإدراك البشري أمام الحقائق اللامحدودة. كلما تقدم الإنسان في العلم، كلما ازداد إدراكه بمدى جهله، فالمعرفة الحقيقية تُشعل في النفس شعورًا متزايدًا بالافتقار إلى المزيد من الفهم.
قال الإمام الحسين (عليه السلام): "إلهي أنا الجاهل في علمي فكيف لا أكون جهولًا في جهلي".
هذه العبارة تلخّص فلسفة الإدراك الإنساني، إذ أن أعلى درجات العلم تبقى محدودة مقارنة بالحقيقة المطلقة. ما يراه الإنسان معرفةً في لحظة، قد يتبين له لاحقًا أنه كان جهلًا أو إدراكًا ناقصًا، مما يجعل التواضع العلمي ضرورة لا خيارًا.
التأصيل العقلي للتواضع العلمي
1️⃣ العلم يكشف للإنسان مدى جهله
كل تقدم علمي جديد يفتح أبوابًا أوسع للأسئلة، مما يجعل دائرة المجهول أكبر مع كل اكتشاف. من يظن أنه بلغ النهاية في علمه، هو في الواقع قد توقف عن البحث، بينما العالم الحقيقي يدرك أن كل إجابة تقوده إلى أسئلة جديدة.
2️⃣ العقل يدرك محدوديته أمام المعرفة المطلقة
لو كان العقل قادرًا على الإحاطة بكل شيء، لما كان هناك حاجة للتجربة والاكتشاف. هذا الإدراك بحدود العقل يجعل الباحث الحقيقي أكثر انفتاحًا للتعلم، وأكثر استيعابًا لاحتمالية الخطأ أو القصور في فهمه.
3️⃣ التواضع العلمي طريق الارتقاء الفكري
الإنسان كلما أقرّ بنقصه، كان أكثر قدرة على سدّ هذا النقص بالبحث والتعلّم، وأما من اعتقد أنه وصل إلى الكمال، فإنه يُغلِق على نفسه فرصة التطور.
التأصيل القرآني للتواضع العلمي
1️⃣ إدراك محدودية العلم البشري
قال تعالى:
﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ (الإسراء: 85).
المعرفة البشرية، مهما توسّعت، تبقى محدودة أمام العلم الإلهي. هذه الحقيقة تحث الإنسان على أن يكون متواضعًا في علمه، لأن كل ما يعلمه لا يمثل إلا جزءًا بسيطًا من الحقيقة الكلية.
2️⃣ التواضع العلمي يقود إلى الرفعة
قال تعالى:
﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ (المجادلة: 11).
الرفعة الحقيقية ليست لمن يدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة، بل لمن يسير في درب التعلم بروح متواضعة، فيرتقي بعلمه إلى مراتب عليا.
3️⃣ الأنبياء والتواضع العلمي أمام الحكمة الإلهية
قال نبي الله موسى (عليه السلام) للخضر:
﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾ (الكهف: 66).
رغم مكانته كنبي من أولي العزم، لم يمنعه ذلك من الاعتراف بوجود علم لم يصل إليه، مما يعكس أرقى صور التواضع العلمي.
4️⃣ التحذير من الكِبْر العلمي
قال تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ (لقمان: 18).
الغرور في العلم يؤدي إلى التعصب والجمود، مما يمنع الإنسان من التقدّم والتطور، بينما التواضع يفتح آفاقًا أوسع للفهم.
التأصيل الحديثي للتواضع العلمي
1️⃣ الرفعة الحقيقية لمن تواضع في علمه
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
"من تواضع لله درجة، رفعه الله درجة، حتى يجعله في عليين".
العلم لا يرفع صاحبه بمجرد امتلاكه، بل بقدر تواضعه في استخدامه ونشره للخير.
2️⃣ عظمة الله ترفع المتواضعين
قال الإمام الكاظم (عليه السلام):
"إن الله لم يرفع المتواضعين بقدر تواضعهم، ولكن رفعهم بقدر عظمته ومجده".
رفعة الإنسان لا تتوقف على جهده فقط، بل هي انعكاس لعظمة الله التي يجازي بها المتواضعين.
3️⃣ التواضع العلمي علامة العقلاء
قال الإمام علي (عليه السلام):
"العاقل يضع نفسه فيرتفع، الجاهل يرفع نفسه فيتضع".
التواضع ليس ضعفًا، بل ذكاءً، لأنه يجعل الإنسان أكثر قبولًا للحكمة وأكثر قدرة على تطوير معرفته.
التواضع العلمي وسنن الله في المجتمع
1️⃣ المعرفة الحقيقية تبدأ عند الاعتراف بالجهل
العالم الحقيقي لا يتوقف عند ما يعرفه، بل يستمر في البحث، لأنه يدرك أن ما يجهله أعظم مما يعلمه.
2️⃣ التواضع العلمي شرط لنهضة الحضارات
الحضارات التي تعترف بأنها بحاجة إلى التطوير المستمر تستمر في النمو، بينما الحضارات التي تغلق أبوابها بحجة امتلاكها للحقيقة المطلقة، تتراجع وتسقط في النهاية.
3️⃣ التواضع العلمي أساس الحوار البناء
من يعتقد أنه يملك كل الإجابات، لا يستطيع أن يتحاور بموضوعية، بينما المتواضع يتفاعل مع الأفكار المختلفة، مما يجعله أكثر قدرة على الوصول إلى الحقيقة.
القواعد النظرية والعملية المستنبطة من التواضع العلمي
القواعد النظرية:
1️⃣ كلما زاد الإنسان علمًا، زاد إدراكه بمدى جهله، مما يجعله أكثر تواضعًا.
2️⃣ التواضع العلمي ليس خيارًا، بل ضرورة لاستمرار التعلم والنمو الفكري.
3️⃣ الغرور في العلم يؤدي إلى الجمود والانغلاق، بينما التواضع يفتح آفاقًا جديدة للفهم.
القواعد العملية:
1️⃣ الإقرار الدائم بوجود معرفة أعمق مما نملكه، مما يحفّز على الاستمرار في التعلم.
2️⃣ تقبّل النقد العلمي باعتباره وسيلة للتطور، لا تهديدًا للمكانة الشخصية.
3️⃣ التعامل مع الآخرين بروح منفتحة، بحيث يكون البحث عن الحقيقة هو الهدف، لا إثبات الذات.
نتيجة ماتقدم :
التواضع العلمي هو سلوك أخلاقي، وكذلك هو قاعدة إلهية تحكم تطور النمو المعرفي للأفراد والمجتمعات. من أدرك حدوده، اقترب من الحقيقة، ومن توهّم أنه وصل إلى الكمال، وقع في الجهل الحقيقي.
قال تعالى:
﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ (طه: 114)، مما يشير إلى أن طلب العلم المستمر، بروح متواضعة، هو الطريق الذي يريده الله لعباده.
الخاتمة بالدعاء
اللهم اجعلنا من الذين يدركون أن العلم نور، وأن هذا النور يزداد إشراقًا بالتواضع، لا بالغرور.
اللهم ارزقنا فهمًا عميقًا، ونفسًا متواضعة، وعقلًا منفتحًا على الحقيقة، واجعلنا من الذين يرتقون بمعرفتهم إلى قربك، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
والحمد لله رب العالمين.
إخترنا لكم
- حين ينطق الكون ، حوارات في العقل والإيمان - الحلقة الأولى
- سُنّة التواضع العلمي في ضوء التفسير الموضوعي
- صناعة الجهل - الحلقة الأولى: صندوق الجهل المُصنّع
- كيف أُربّي ابني "المشاكس؟ مقاربة تربوية معرفية
- حرية الإنسان وحرمة التجسس في ضوء القرآن الكريم
- الإرادة الحرة في الفكر الإسلامي والغربي - مقاربات عقلية ونصية
- ظاهرة الغلو في الدين .. مقاربات ومعالجات
- تكريمنا في المهرجان العالمي البحثي لاسبوع التحقيق السنوي
آخر الأسئلة و الأجوبة
- ما المقصود بالتعارض البدوي في الروايات الشيعية ؟
- ماهو المراد من هذه العبارة : الجرح امر وجودي والتعديل عدمي
- مخطط تفصيلي لخريطة ومشجرة تقسيم الخبر
- كيف نخلق ثقافة المحبة وخلق الإبتسامة في المجتمع
- ماهو رأي علماء السّنة بالمذهب الشيعي ؟
- حلاوة وزينة ذكر علي عليه السلام
- ماهي نصيحتكم لنا في قراءة البحوث القرآنية والعقدية ورد الشبهات؟