صناعة الجهل - الحلقة الأولى: صندوق الجهل المُصنّع
صناعة الجهل
الحلقة الأولى: صندوق الجهل المُصنّع
#يحيى عبد الحسن هاشم
في زمنٍ تتكاثر فيه المنصّات وتتضاءل فيه الحقيقة، يغدو الوعيُ أشبه بثورة، والمعلومةُ الصادقة عملةً نادرة.
"صناعة الجهل" برنامجٌ توعويٌّ نقديّ، نكشف فيه يوميًا - أو ربما لفترات بين الحين والآخر - حقيقةً غائبة أو مغيبة، نسلّط من خلاله الضوء على آليات التجهيل التي تمارسها مؤسسات متعدّدة – إعلامية، تعليمية، دينية، سياسية او قد تكون دول تشرف عليها بالخفاء– بهدف تشكيل وعيٍ زائف، يسوق الناس إلى العبودية الفكرية وهم يظنّون أنهم أحرار. ونقصد من العبودية الفكرية هي حالة يفقد فيها الإنسان قدرته على التفكير الحرّ والنقدي، فيتلقّى الأفكار والمفاهيم كما هي دون تمحيص، ويُسلِّم بها وكأنها مسلّمات، إما بسبب التلقين أو الخوف أو العادة أو الإعجاب الأعمى بسلطة معينة كما تقدم ذكرها ..
وباختصار:
هي أن يُفكِّر لك غيرك، وأنت تظن أنك تفكّر بنفسك.
نحن لا نكتفي بالتحذير من الزيف، بل نمارس بقدر الإمكان عملية تفكيك منهجي دقيقة له، عبر أربع محطات أساسية:
1. عنوان واضح ومحوريّ.
2. تمهيدٌ مركز للفكرة يكشف بنيتها العميقة.
3. تحليلٌ لآثارها على الرأي العام وتشكيل الوعي الجمعي.
4. خطوات عملية لمواجهة هذا النمط من التجهيل.
غاية هذا البرنامج هو إعادة بناء الوعي على أساس من البصيرة، والتحرّر من الخداع الذي يتسرّب إلى العقول، سواء عبر الإدراك الواعي أو من خلال اللاوعي الجمعي.
صندوق الجهل المُصنّع
التمهيد:
نلفت عناية القارئ الكريم إلى أن هذا البرنامج لا يتّجه دائمًا إلى التأصيل العلمي الشامل في كل حلقة، بل نعتمد في "قناة أفق" منهجًا يتفاوت بين الاختصار والتوسعة بحسب ظرف البحث ومقتضى المقام. كما نحرص في الوقت نفسه على أن تكون عباراتنا واضحة وسلسة، تقترب من وجدان القارئ وتكلمه بلغة وعي لا تعقيد.
في زمنٍ تنفجر فيه أدوات المعرفة، تتراجع الحقيقة… لا بسبب نقصها، بل لأن الضجيج يعلو عليها. لقد أصبحنا في عصرٍ تُصنَع فيه الأكاذيب كما تُصنَع البضائع، وتُسوّق كما تُسوّق العلامات التجارية.
"نحن نعيش في عالم من الجهل المتطرّف"، هكذا يقول المؤرخ روبرت بروكتور من جامعة ستانفورد، ويضيف: "المعرفة متاحة، لكن هذا لا يعني أنها تصل، إذ يمرّ أي نوع من الحقيقة عبر فوضى المعلومات، لتُدفن تحت ركام التوافه".
الفكرة المحورية:
لم يعد الجهل مجرد نقص في المعرفة، بل أصبح نظامًا معرفيًا بديلًا… يُصنّع الجهل الآن عبر أدوات ووسائط مدروسة، يُزرع في العقول ويُعاد تشكيل الإدراك البشري ضمن هندسة ذكية للوعي.
يطلق على هذا التوجه "علم الجهل" أو Agnotology، وهو دراسة مقصودة لآليات نشر الجهل، لا بوصفه حالة طبيعية، بل كناتج مخطّط تقوم به قوى نافذة لإضعاف وعي المجتمعات، وتشكيل عقولها.
مرتكزات صناعة الجهل:
1. الإعلام المُوجّه:
لا يقدّم لك الحقائق، بل ينتقي لك ما يجب أن تعرفه.
يضخّ الرسائل نفسها بأشكال مختلفة حتى تستقر في اللاوعي.
2. نظام تعليمي هش:
يعتمد على التلقين لا التفكير.
يروّج لمفاهيم النجاح المختزلة في الشهادات لا الكفاءة.
3. نخبة مُصطنعة:
شخصيات تُلمّع دون استحقاق علمي أو معرفي.
توضع في موقع التأثير لتوجيه الرأي العام.
4. الخطاب الديني المبرمج:
يُفرغ النصوص من مقاصدها.
يُوظف لخدمة السلطة لا الإنسان.
5. الخوف كأداة ضبط:
اختراع عدو دائم يبرر التبعية.
تهويل الفوضى إن خرجنا عن "النظام المفروض".
الآثار والانعكاسات:
تفتيت الهوية الفردية والجماعية.
إضعاف مناعة العقل ضد التزييف.
خلط الحقائق بالشبهات حتى يُهجر اليقين.
انهيار الثقة بالمصادر الجادة، وصعود الشعبويات.
كيف نواجه هذا النظام؟
1. نشر ثقافة التحقق لا التلقّي.
2. إعادة الاعتبار للفكر النقدي في التعليم والدين والإعلام.
3. تفكيك رموز الجهل في حياتنا اليومية: قد يكون مُعلّقًا على الحائط، أو ناطقًا على الشاشة.
4. تحرير المفاهيم من قبضة التسطيح: ما هي الحرية؟ من هو المثقف؟ ما معنى النجاح؟
الخاتمة:
الجهل اليوم ليس فراغًا بل امتلاء… ولكنه امتلاء ملوّث. نعيش بين طوفان من المعاني الجاهزة، والآراء المعلّبة. وعلينا، قبل أن نُعلّم الناس، أن نُطهّر العقول من هذه الضوضاء.
إنها معركة بين "الوعي المركّب" و"الجهل المركّب"… ومن لا يخضها، سيُساق فيها بلا وعي.
ومضة أخيرة:
"ليس أخطر من الجهل، إلا أن تجهل أنك جاهل ".
إخترنا لكم
- حين ينطق الكون ، حوارات في العقل والإيمان - الحلقة الأولى
- سُنّة التواضع العلمي في ضوء التفسير الموضوعي
- صناعة الجهل - الحلقة الأولى: صندوق الجهل المُصنّع
- كيف أُربّي ابني "المشاكس؟ مقاربة تربوية معرفية
- حرية الإنسان وحرمة التجسس في ضوء القرآن الكريم
- الإرادة الحرة في الفكر الإسلامي والغربي - مقاربات عقلية ونصية
- ظاهرة الغلو في الدين .. مقاربات ومعالجات
- تكريمنا في المهرجان العالمي البحثي لاسبوع التحقيق السنوي
آخر الأسئلة و الأجوبة
- كبار علماء المدرسة السنية يوثقون حديث الغدير
- متى نرى فقه الواقع أحكاماً وعقائداً ؟
- ما الفرق بين الاحتياط الوجوبي والاستحبابي ، من حيث دلالة الدليل و فعل المكلف
- هل المهم أن نحفظ القرآن أو نستنطقه ونتدبره
- ماهي المعايير التی یجب أن يتحلى بها الباحث أو الكاتب
- هل يمكن أن نختزل ثورة الإمام الحسين بالبكاء كما يصوّره لنا بعض الخطباء ؟
- ماهو منهج الفيض الكاشاني في كتابه الوافي ؟