حين ينطق الكون: الوعي الكوني… إدراك الوجود في حركته الجوهرية
🌌 حين ينطق الكون – الحلقة الرابعة عشرة
الوعي الكوني… إدراك الوجود في حركته الجوهرية
✍️ يحيى عبد الحسن هاشم
المقدمة:
في الحلقة السابقة، وقفنا عند حقيقة مدهشة: أن الكون ليس جمادًا خاضعًا للصدفة، بل كيانٌ حيٌّ يسبّح بحمد الله، ويتحرّك بإدراك تكويني خاص.
غير أنّ هذا الإدراك ليس من سنخ العقل الإنساني، بل هو وعي وجوديّ يتجلّى في نظام الخلق وسننه الدقيقة.
وقد بيّن القرآن هذه الحقيقة في مواضع عدّة، منها قوله تعالى:
﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنَّ﴾،
وقوله: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾،
فكل ذرة في الكون، وكل حركة في الوجود، تنطق بالهداية الإلهية، وتدلّ على وعيٍ فطريّ بخالقها.
واليوم سنحاول أن نُسقط هذه المفاهيم على حوارٍ حيٍّ بين آدم وسليم، لنرى كيف يمكن للفكر الإنساني أن يقترب من هذا الوعي الكوني، وأن يدرك أن كلّ حركة في الوجود هي في حقيقتها حركة نحو الله.
وسنرى كيف يمكن لنظرية الحركة الجوهرية التي طرحها صدر المتألهين أن تفسّر هذا الوعي تفسيرًا فلسفيًا عميقًا، يربط بين الوجود والوعي والغاية ضمن نظام واحد.
آدم:
كنتُ أفكر يا سليم… إذا كان كل شيء في الكون يسبّح الله كما قال تعالى:
﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾،
فهل معنى ذلك أن للكون وعيًا خاصًا؟ أم أن التسبيح مجرد انقياد آلي بلا شعور؟
سليم:
سؤال جميل يا آدم، لكنه يفتح أبوابًا بعيدة المدى…
فالقرآن حين يصف الكون بالتسبيح والخشوع والهداية، لا يتحدث عن رموز شعرية أو استعارات بل عن حقائق وجودية.
انظر قوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾،
فهو يؤكد أن في كل مخلوق هداية باطنة تجعله يسير نحو غايته بدقة، وكأن في داخله "شعورًا تكوينيًا" بالوجهة التي خُلق لأجلها.
آدم:
وكأنك تقول إن الوعي في الوجود ليس محصورًا بالعقل الإنساني؟
سليم:
بالضبط.
الوعي في الإنسان عقلٌ مفكّر، وفي الكون وعيٌ جوهريّ فطريّ، يسير وفق نظام الله.
وهذا ما لمّح إليه صدر المتألّهين في نظرية الحركة الجوهرية، حين قال إن كل موجود في العالم المادي ليس ثابتًا جامدًا، بل هو في حركة دائمة نحو الكمال.
فالوجود عنده “سيّال”، يتحرك من النقص إلى الكمال، ومن القوة إلى الفعل، وهذه الحركة ليست عرضية بل جذرية في جوهر الأشياء.
آدم:
إذن… يمكن القول إن الوعي الكوني هو تجلٍّ لهذه الحركة الجوهرية؟
سليم:
نعم، تمامًا.
فالكون يدرك غايته من خلال سيره الوجودي نحو الكمال، كما تدرك النبتة طريقها نحو الضوء، والنجوم مدارها حول المركز، والأرض موعدها مع الزرع والإنبات.
هذه ليست عمليات ميكانيكية عمياء، بل طاعة تكوينية لله، عبّر عنها القرآن بالوعي والتسبيح والخشية.
آدم:
وهل يمكن أن نفهم من هذا أن الوعي الكوني هو نوع من العبودية المستمرة؟
سليم:
أحسنت التعبير.
الكون كلّه في حالة عبودية حركية دائمة.
وحين قال تعالى: ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾ (النور: 41)،
فكأنّ لكل كائن "معرفة خاصة" بطريقته في التسبيح.
وهذا يعني أن للوجود "إدراكًا تكوينيًا" ينسجم مع نظامه وسننه.
آدم:
أشعر أن هذا الفهم يقرّبنا من رؤيةٍ توحيدية عميقة، ترى الله في حركة كل ذرة، لا في العجز العلمي عنها.
سليم:
وهذا هو المقصد القرآني الأعلى يا آدم…
أن نرى الكون لا كجسد صامت، بل كـ"كلمة ناطقة" بقدرة الله.
فالوعي الكوني هو الوجه الآخر للسنن الإلهية التي تحكم الأشياء، والحركة الجوهرية ليست سوى صورةٍ من صور التسبيح الكوني المستمر.
آدم:
جميل جدًا… وكأن صدر المتألّهين حين تحدّث عن الحركة الجوهرية، كان يسمع أنين الوجود في تسبيحه.
سليم:
نعم، فالعرفاء والحكماء لا يفصلون بين الفلسفة والقرآن، بل يجعلون الوجود كلّه طريقًا إلى الله.
والحركة الجوهرية عند صدر الدين الشيرازي، ليست حركة مادّية فحسب، بل هي رحلة الوجود نحو الله، كما قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ (الانشقاق: 6)،
وهذا يشمل الإنسان والكون معًا؛ فكلاهما في مسيرٍ وعيٍ نحو بارئه.
آدم (متأملًا):
إذن، حين ينطق الكون، لا ينطق بلسانٍ من حروف، بل بلغةٍ من وجود.
وحين ندرك هذه اللغة، نصبح جزءًا من وعيه، لا غرباء عنه.
سليم:
نعم يا صديقي، تلك هي المعرفة الكبرى… أن تفهم أن الكون ليس صامتًا، بل ذاكرًا، متحركًا، عارفًا بربه.
ومن يفهم هذا، يبدأ أول خطوة في طريق الوعي بالله تبارك وتعالى .
#يمكن متابعة هذه الحلقات عبر منصة
قناة افق المعرفة | صناعة الوعي
إخترنا لكم
- حين ينطق الكون: الوعي الكوني… إدراك الوجود في حركته الجوهرية
- الشباب ؛ طاقة التغيير ومفصل النهضة في الرؤية الإسلامية
- الفلسفة؛ تعريفها - موضوعها - غايتها- هدفها
- رسول المعرفة (ص) والوعي… وقناة تستضيء بنوره لصناعة الوعي
- العقل ودوره في إثبات الرؤية الكونية ( محاضرة علمية)
- التلقين الجمعي وأزمة التفكير المستقل
- بين البداهة والوجود - تفكيك دعوى إنكار البديهيات والواقع
- قانون عدم التناقض والثالث المرفوع؛ عماد العقل ومنطلق الحياة
آخر الأسئلة و الأجوبة
- ما صحة هذا القول : إنّ الشيعة لا يحتاجون لعلم الجرح والتعديل؛ لان عندهم المعصوم
- شبهة التنافي بين علة الغيبة ـ خوف القتل ـ وبين العلم بموته
- هل يمكن أن نختزل ثورة الإمام الحسين بالبكاء كما يصوّره لنا بعض الخطباء ؟
- ما هو التعريف الدقيق لمفهوم فلسفة الدين، وما هو المراد من الدين ؟
- الاقتران بين الحب للعترة الطاهرة والعمل هما المنجيان
- لماذا هذا البكاء الكثير على الحسين عليه السلام ؟
- ماهو الفرق بين مصطلح الوثاقة والوثوق
